ان تقييم اي رحلة استكشافية لا يحدده عدد الايام ولا عدد المشاركين وما يمتلكون من مزايا ولا عدد الاماكن المزارة، بل بالكم المعرفي والاستمتاع المتحصل منها. لكن ان تجتمع كل تلك الامور في رحلة واحدة، فهذا بحق يجعلها من اروع الرحلات الاستكشافية وامتعها
فلأول مرة منذ تعلقي بالرحلات الاستكشافية داخل المملكة اشارك في رحلة طويلة لثلاثة عشر يوم بصحبة ثلة من الاصدقاء ذوي الخبرة الجيولوجية والتاريخية لزيارة العديد من المناطق التاريخية والجيولوجية في شمال وشمال غرب المملكة التي تعتبر بحق أيقونه فيما تحتويه من طبيعة خلابة وتضاريس غاية في الجمال والابداع الرباني
بمشاركة خمس سيارات، كان خط سير الرحلة وبرنامجها على النحو التالي
التخييم في جبال قطن التابعة لمحافظة عقلة الصقور الواقعة بين القصيم والمدينة المنورة لمدة ليلتين. تشكل جبال قطن مجموعة من الجبال المتناثر وتفصلها العديد من الشعبان والوديان كما تكسوها العديد من شجر الطلح والمسطحات الخضراء
مرورا بالمدينة المنورة، قمنا بزيارة أحد البراكين الخامدة في العيص والتخييم في المنطقة. كما تخلل زيارتنا للعيص التجول فيها وشراء بعض تمور البرني التي تشتهر بها
على الرغم انها لم تكن ضمن برنامج الرحلة, الا ان العلا كانت محطتنا التالية نزولا عند رغبة أحد المشاركين لزيارة الحجر (مدائن صالح) لأول مرة. لذلك غادر المخيم في العيص باكرا ليتسنى له زيارة الحجر ثم لقائنا في موقع متفق عليه في العلا. لا يفوتني هنا ذكر ما حصل لأحد المشاركين عند خروجنا من العيص بأتجاه العلا اثناء تعبئة سيارته بالديزل. قام عامل المحطة وبطريق الخطاء بأدخال 8700 ريال في آلة السحب بدل 87 ريال وتمت عملية السحب. فقد اضطررنا للتأخر لبعض الوقت الى حين وصول صاحب المحطة لمعالجة الامر لأرجاع المبلغ لصاحبنا عن طريق التحويل البنكي
ابو راكة التابعة لتبوك كانت المحطة التالية بعد خروجنا من العلا. تعتبر منطقة برية رملية زاهية الحمرة وبها العديد من الجبال الجرانيتيه بألوان رائعة وحلة من الاعشاب والشجيرات البرية تكسو الكثبان الرملية. من المدهش وجود العديد من مزارع الزيتون في ابو راكة مما شجعنا لشراء زيت الزيتون من تلك القرية وحتى السمن البلدي. لاحدود لأماكن التخييم في ابو راكة على تلك الكثبان الحمراء وبين الجبال الرائعة، فقد امضينا ليلة تخييم ممتعة في تلك المنطقة
وادي الديسة الاشهر في تبوك كانت الوجهة بعد ابو راكة. فعلى الرغم من زيارته سابقا قبل عدة سنوات ، الا اننا توقفنا في ذلك المعلم الجغرافي المميز لتجديد العهد والاستمتاع بمناظر جباله وخضرته ولأعطاء احد المشاركين فرصة رؤيته لأول مرة. الطريق من ابو راكة الى وادي الديسة كان رائعا لمروره من خلال الجبال الشاهقة والانحدارات والانعطافات الحادة التي تعرف محليا بالعقبات التي تتطلب تفعيل الدفع الرباعي والسير بحذر. مغادرتنا لوادي الديسة كانت آخر النهار في اجواء باردة جدا وسرعة رياح مرتفعة نسبيا، لذا تقرر التخييم في منطقة قريبة من الوادي مما اتاح لنا فرصة الاستمتاع اكثر بطبيعة المنطقة وجبالها وتم ذلك بعد التأكد من احد المراكز الامنية من امكانية التخييم
من منطقة الديسة توجهنا الى موقع لا يكاد احد ان يصدق انه موجود في المملكة يطلق عليه الشق (الجرف) وهو عبارة عن صدع عميق وبطول عدة كيلو مترات اشبه ما يكون بصدع البحر الاحمر الا انه لا اتصال له بالبحر. كما ان طريقة تكونه تشبه الى حد كبير طريقة تكون البحر الاحمر من خلال التحرك التكتوني لصفائح الارض. لم يكن الوصول اليه بألامر السهل لوعورة الطريق، لكن ولحسن الاحظ التقينا بعض المواطنين العاملين في احد مشاريع نيوم في تلك المنطقة فأرشدونا مشكورين لطريق اقل وعورة يوصلنا الى ذلك الجرف الهائل. كان ذلك آخر ساعات النهار التي تعتبر افضل الساعات للتصوير والاستمتاع بأحلى المشاهد لتلك الطبيعة القاسية في تكونها والمذهلة في جمالها. لحسن الحظ خيمنا على بعد عشرات الامتار من ذلك الجرف العظيم في اجواء منخفظة البرودة وصلت حتى 3 مما اتاح لنا فرصة اكثر للتأمل والمشاهدة والتصوير مع بدايات الساعات الاولى للنهار التالي
بجدة وما ادراك ما بجدة كانت الوجهة التالية بعد منطقة الشق/الجرف. بجدة تلك القرية الوادعة التابعة لمنطقة تبوك والتي تكتنز بين جنباتها افضل ما تقدمه الطبيعة من جمال آسر للكشاته والمستكشفين ومحبي الرحلات. طبيعة ساحرة وجبال جرانيتية مفلطحة غير حادة شاهقة ومتعددة الاشكال والالوان تتخللها العديد من الوديان والشعبان وتحف بعضها انواع كثيرة من الاشجار. وما يزيد من روعتها تلك الكثبان الرملية الحمراء التي تلف تلك الجبال وكأنها تحاول دون كلل على ابتلاعها في مشهد مهيب يؤكد الصراع حتى في عالم الجماد
يوجد في تلك الوديان العديد من رعاة الابل والاغنام مما يجعلها تعج بالحياة ولجعل المنطقة محطة جذب سياحي انشئ مؤخرا محمية ضمن مشروع نيوم لأكثار بعض الحيوانات المهددة بالانقراض كالمها العربي والوضيحي والنعام. يمكن للزائرين والسياح الدخول للمحمية بعد الحصول على تصريح من خلال المنصة الوطنية الموحدة لزيارة المحميات. مخيمنا في بجد كان من اروع الاماكن للتخييم بالقرب من المحمية حيث وفقنا في اجواء هادئة ومعتدلة البرودة على عكس توقعنا بأنها ستكون من أبرد المناطق في برنامج الرحلة. لم تكن زيارتي لمنطقة بجده الاولى اذ قمت برحلة للمنطقة في عام 2015 مع مجموعة اجانب لكن حينها كانت تحت عنوان وادي دهام الذي يبدو انه احد الوديان الشهيرة في منطقة بجدة
من بجدة، توجهنا الى مدينة تبوك لغسيل السيارات التي اكتست بطبقة كثيفة من الغبار ولشراء ما ينقصنا من مؤنة للرحلة والتزود بالمياه وتناول وجبة الغداء في احد مطاعم تبوك االشعبية
تيماء كانت المحطة التالي في الرحلة بعد بجدة/تبوك التي اضطررنا للقيادة لها حتى الساعة السابعة مساء وعلى بعد 65 كم من تيماء توقفنا للتخييم بجانب الطريق. كانت ليلة من ابرد الليالي في الرحلة ربما ساهم في ذلك عدم وجود جبال لصد الهواء. صباحا وبعد الافطار اكملنا طريقنا الى تيماء وبعد شراء بعض متطلبات الرحلة توجهنا لصحراء تيماء لتكون صخرة النصلة الشهيرة اول اهدافنا. هذه الصخرة تعتبر احد اشهر المواقع الاثرية الطبيعة في صحراء تيماء وسميت بالنصلة لأنها مقسومة الى جزئين وكأنها قسمت بسيف عظيم. تعددت الروايات في كيفية انقسامها الدقيق بهذا الشكل، لكن التفسير الجيولوجي والعلمي من أحد الجيولوجيين المشاركين يقول بأن هنالك حركة جيولوجية حدثت جعلتها تنقسم بهذه الدقة. كما يوجد بعض النقوش والرسومات على الصخرة التي تعود ربما الى الحقبة الثمودية ولذلك تم تسويرها للحفاظ عليها من عبث العابثين
صحراء تيما من اروع الصحاري في المملكة ليس فقط للهدوء والسكينة وجمال جبالها ورمالها بل لغناها بالمواقع الاثرية الطبيعة والتاريخية. صحراء تيماء تعتبر غابة من الصخور الرملية في شكل جبال نحتت على صفحاتها العديد من النقوش والرسومات الاثرية التي تعود الى 5000 عام قبل الميلاد. ومما زاد من متعة التجول في صحراء تيماء ما حصلنا عليه من موجز تاريخي وجيولوجي من بعض المشاركين في الرحلة. تخييم ليلتين في صحراء تيماء لا تفي هذه الصحراء حقها لما تحويه من تاريخ وطبيعة وجيولوجيا فضلا عن الهدوء والسكينة … اكاد اجزم ان صحراء تيماء قادرة عل ان توصل رسالتها التاريخية والجغرافية والاثرية حتى الى فاقدي البصر
حائل عروس الشمال كانت الوجهة بعد تيماء. وما ان يأتي ذكر حائل حتى يضج في الذهن العديد من المواقع كجبال اجاء و سلمى و منازل حاتم الطائي في توارن ومنطقة النايلات وعين عنتر وبعض الحرات والمناطق البركانية. تتميز المناطق الكشتية في حائل بجبال جرانيتية شاهقة متعددة الاشكال والالوان ودراجات الاحمرار والكثير من الاشجار والمسطحات الخضراء خصوصا في موسم الامطار
وقفتنا الاولى كانت في توارن لزيارة منازل حاتم الطائي التي تحكي حقبة مشرفة في تاريخ المنطقة عنوانها الكرم الذي تأصل في اهل المنطقة عبر السنين ثم خيمنا في جبال اجا الشهيرة في أحد الوديان الجميلة التي تكسو جنباته العديد من الاشجار في اجواء معتدلة البرودة. صباحا غادرنا المخيم بأتجاه جبال سلمى التي كانت خارج نطاق مدينة حائل الى حد ما واقل كثافة اشجار لكن كانت تتميز بهدوئها ونظافتها لقلة الكشاته والمرتادين
اثناء خروجنا من حائل كانت لنا وقفة عند موقع يطلق عليه عين عنتر وهو عبارة عن فوهة بركان خامد قديم سهل الوصول مما اتاح لنا روية جدار البركان المتكون من طبقات الحمم البركانية في مشهد غاية في الجمال والعظمة
المحطة الاخير في رحلتنا كانت شعيب الحسكي في شرق الزلفي والذي يعتبر من أشهر الشعبان في المملكة. يتميز الشعيب بكثرة اشجار الطلح على جانبية وفي موسم الامطار يصبح الشعيب كالنهر الهادر لأستقباله اغلب مياه الامطار في المنطقة. على الرغم من عدم وجود اي مياه في الشعيب حين تخييمنا، الا انه بدى رائع لكثرة الاشجار خصوصا رؤيته من الجو بواسطة الدرون
على الرغم ان هذه الرحلة تعتبر اطول رحلة اقوم بها داخل المملكة, الا انها تعتبر قصيرة وقصيرة جدا بالنظر لكثرة الاماكن الرائعة وغناها التاريخي والجيولوجي والاثري والطبيعي وهذا يجعلها دائما في اعلى القائمة في الرحلات القادمة
